فصل: فصل: يشتمل على تمهيد أصل عظيم تستند إليه مسائلُ جمّة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يشتمل على ما يجب الإعلام فيه في المسابقة:

11668- فنقول: لابد من إعلام المدى، ولو وقع التعاقد على أن يتساوقا إلى أن يتفق سَبْقُ أحدهما، فالمعاملة فاسدة؛ فإنهما قد يتساوقان الفرسخ والفرسخين حتى ينقطعا، ولا يسبق أحدهما، فلم تصح المعاملة من غير ضبط في المنتهى.
وأما المبتدأ، فحيث يتفق الوقوف فيه والوجوه في تلقاء الغاية المُعْلَمة، ويشترط استواؤهما في الموقف، فلو وقع التشارط على أن يتقدم أحدهما بمقدارٍ، فالشرط فاسد وفاقاً.
فإن قيل: قد يتفاوت الفرسان في الفراهة ونقيضِها فإذا وقع التراضي على التعديل بتقدم الفرس الذي هو دون الجواد الفاره، فما المانع من ذلك؟ قلنا: هذا لا يدخل تحت الضبط، وليس من الممكن أن يستبان تفاوت الفرسين بخطوات، فالوجه طلب الضبط بالتساوي في العَيان.
11669- ثم لو كان أحد الفرسين بحيث يغلب على الظن سبقُه، فلا يجوز إيراد المسابقة مع هذا التفاوت، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في المحلِّل، فقال: "من أدخل فرساً كفئاً بين فرسين لا يؤمن أن يسبق، فهو حلال " وإذا تبين أن المحلِّل لو كان بحيث يغلب استئخاره لرداءة فرسه، فليس محلِّلاً، وإن كان يظن أن يسبق؛ إذ لا يبعد سبقُه، فهو المحلِّل، وإن كان المحلل بحيث يَغْلِب لا محالة، بأن كان على جواد من العِتاق والمُسْبِق على بِرْذَوْن لا يُدرك شأْوَ المحلِّل؛ فلا تصح المعاملة؛ فإن هذا العقد مبناه على الخطر، ومن ضرورة الخطر التردد.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: "التعامل والحالة هذه من باب بذل المال بالباطل " والمراد بذلك أن الغرض المطلوب المخاطرةُ، وشرطها التردد والاحتمال، والذي يحقق ذلك أن من يُسْبَق لا محالة ليس بمسابق، وإنما هو في حكم الراكض بنفسه.
وفي المسألة وجه آخر أن المحلِّل إذا كان بحيث يَسبق، صح. وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
11670- ولو أعلمنا المنتهَى الذي لا حكم للسبْق وراءه، ولكن وقع التشارط على أن السبْق إن اتفق في خلال الميدان، كفى، وكان فوزاً، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: أنه يجوز؛ فإن المعنى المحذور في ترك إعلام الغاية، وهو إمكان التساوق إلى أمد بعيد زائلٌ هاهنا؛ فإن الميدان مضبوط، ومنتهاه معلوم.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا؛ فإن الفرس النَّزِق قد يظفر في أول الميدان، ثم يقف أو تنكسر حِمِرَّته، والجواد يتمطى ويضبِر في أواخر الميدان، فالاكتفاء بالسَّبْق قبل الغاية يوجب تقديم برذون نَزِقٍ على جواب.
ومما ذكره الأصحاب أن المُتَسابِقِين لو شرطوا غاية وعينوها، ثم قالوا إن اتفق السبق عندها، فذاك، وإلا تعديناها إلى غاية أخرى، عيّنوها، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: الصحة لتحقق الإعلام.
والثاني: الفساد؛ لتردد المعقود عليه وتميُّله، ولعل الأصح الصحة؛ لأن ما وصفناه ليس مناقضاً لمقصود العقد، وحق الفقيه أن يفهم مقصودَ العقد، وُينْزل عليه ما يطرأ من شرط، فقد تبين وجوب إعلام السبَق، ووجوب إعلام الغاية.
وقد تجري مسائل في أثناء الكتاب تلتحق بمضمون هذا الفصل، وفيما ذكرناه مَقْنع في تمهيد القاعدة. وهذا هو الذي نبغيه بعدُ.
11671- ثم ذكر الأصحاب ما يقع السبق به، ونحن ننقل ما ذكروه على وجهه، ثم ننظر: وقد ظهر تردد الأصحاب في أن السبق يعتبر بتقدم الرأس والعنق والهادي، أو يعتبر بمواقع الأقدام والكتف، وهذا التردد مشهور، وقد نسبه بعض الأئمة إلى النصوص، وجعل في المسألة قولين.
وذكر العراقيون في ذلك تفصيلاً وقالوا إن كان عنق أحد الفرسين أطول، فسبق بذلك القدر من الطول، من غير زيادة، فلا يكون سابقاً، وإن استويا في الطول، فهو موضع الخلاف، ونقل العراقيون أيضاً عن الشافعي أنه قال: الاعتبار في الخيل بالعنق والهادي، والاعتبار في الإبل بالكَتَد والخف، ثم قال: ذلك لأن الإبل تَمُدُّ أعناقها إذا عَدَت، والخيلُ ترفع رؤوسها في وقت العدو، وهذا الذي ذكروه من التعرض لطول الرقبة فيه إشكال؛ من جهة أن المتسابقين لا يتعرّضان لتساوي العنقين وتقديرهما، مع العلم بأنَّ تفاوت الأعناق من الأمور الشائعة الظاهرة، فترك التعرض لهذا دليل على أنه لا اعتبار به، وأيضاً؛ فإن الفرسين إذا استويا في طول الرقبة وقصرها، وكانا يمدّان عنقيهما في العدو، فالسابق بالهادي يكون سابقاً بمواقع السنابك لا محالة، فلا يبقى للتردد بين العنق وموقع القدم وجه، والتردد في اعتبار ما به السبق معروف.
وقد كثرت إشارات الشافعي إلى اعتبار الهادي، ومما يشهد لذلك أنَّ أصحاب التسابق ربما يمدّون خيطاً في المنتهى المعلوم، والغاية المشروطة، ويبين السبْق بخرق الخيط، ومعلوم أن رأس الفرس ينتهي إلى الخيط الممدود فيخرقه. هذا بيان ما ذكره الأصحاب.
والوجه في ذلك أن التردد إنما يظهر من حيث إن من الخيل ما يعتاد مدّ العنق في العدو، والتمطي، وذلك مما يستحسن ويستحب، وقد يكون له أثر في استعمال الأسلحة، ومن الخيل ما يكون شائلاً رأسَه صُعداً، وهذا غير محبوبٍ في العدو، وإنما يؤثر ويستحَب في السير الهملجة، وقد يصدم وجهَ الفارس إذا كان يستعمل سلاحاً في عدوه.
فمن اعتبر السبق بالهادي، فمأخذه ما ذكرناه، والأقيس اعتبار السبق بالقدم؛ فإنه السبق حقّاً، والهادي لا يحصل السبق به؛ إذ العدو بالقدم. وما ذكره العراقيون من اعتبار الأعناق في أقدارها متجه إذا كان الفرسان يمدّان أعناقهما، فيتعيَّنُ والحالة هذه اعتبار التساوي في الطول والقِصر، وما ذكرناه من أن أصحاب التسابق ما اعتبروا ذلك، فهو على وجهٍ، ولكن سببه أنَّهم كانوا يعتبرون القدم، فلم يلتفتوا إلى طول العنق وقصره.
11672- فانتظم مما ذكرناه أن الفرسين إن تفاوتا في مد العنق، اتسق خلافٌ في اعتبار العنق والقدم، ولا نظر إلى أقدار الأعناق.
وإن كانا يمدان الأعناق، وقلنا: الاعتبار بالأقدام، فلا نظر إلى الأعناق، وإن قلنا: الاعتبار بالأعناق، فيتجه اعتبار التساوي في العنقين.
وأما ما حكاه العراقيون من أن الاعتبار في الإبل بمواقع الخفاف، فلم يتعرض لهذا المراوزة، والذي بلغنا ما نقلناه، وما نقله العراقيون فالثقة حاصلة بمنقولهم، وهذا قليل النَّزَل والفائدة.
وكان شيخي يقطع بأن الاعتبار في التساوي في ابتداء الميدان بالأقدام لا غير، وإنما التردد في آخر الميدان، وهذا حسنٌ متجه لا يجوز غيره، فإنَّا إذا اعتبرنا السبق بالعنق من جهة استحباب مد الفرس عنقه، فهذا لا يتحقق في ابتداء الموقف؛ فيتعيّن اعتبار الأقدام؛ إذ بها السبق في الحقيقة، ولو اعتُبر الهادي، لجرّ ذلك تفاوتاً في السبْق مهما اختلفت الأقدام.
هذا تمام المراد في قواعد المسابقة، وستأتي مسائل ممتزجة بالمناضلة، ونحن نتبع ترتيب كلام الأصحاب فيها.

.فصل: في قاعدة المناضلة:

11673- نقول: إخراج المال فيها كإخراج المال على المسابقة، ويجري في إخراج المال الصور الثلاث: فقد يُخرج الإمام المالَ، ويتناضل المتناضلون، ولمن فاز المالُ، وقد يخرجه أحدٌ من عُرض الناس، وهو ملتحق بالقسم الأول، وقد يخرج المالَ أحدُ المتناضلين، وقد يخرج كلُّ واحد منهما. وإذا كان كذلك، فلابد من محلِّل، على الترتيب الذي ذكرناه في المسابقة.
ثم في المناضلة ألفاظٌ يستعملها الرُّماة، ويتداولها الفقهاء، ونحن نذكرها ونبيّن معانيها، ثم نخوض: فمما أطلقوه الرّشق، وهو نوبةٌ من الرمي، تجري بين الرَّاميين أو الرُّماة سهماً سهماً، أو على ما يتشارطان، هذا هو الرشق.
والهدفُ في بلاد العرب مثل الترس، يُنصب ويعلّق من وسطه شَنٌّ صغير، والتراب للعجم في محل الهدف للعرب، والشَّنُّ للعرب في محل القرطاس للعجم، ثم ينصبون الغرض على جريدة وهي الغصن من النخل والإصابة تسمى القَرْعة.
ومن الأسماء المستعملة الخارق، والخاسق، والخازق، ومعانيها قريبة، لا تكاد تختلف. والزاهق هو الذي يعلو أو يمرُّ وراء الهدف، والمارق هو الذي ينفذ في الهدف، ولا يخفى القريب.
11674- ثم للنضال سبيلان مسوّغان:
أحدهما: المبادرة.
والثاني: المحاطّة، أمَّا المبادرة، فمعناها أن يتشارطا قرعات معلومة، على أنَّ من يتبدر إلى الفوز بها، فهو فائز، وذلك-لا محالة- إذا ساواه صاحبه في أعداد الأرشاق، فلو رمى كل واحد خمسين، وحصل لواحد عشر قرعات، وللثاني تسع قرعات، فالفوز لصاحب العشر، هذا معنى المبادرة على الجملة.
وأما المحاطة، فمعناها أن من أصاب قرعة حطها من قرعات صاحبه، وإنما يقع الفوز إذا خلصت القرعات لواحد، وهذا قد يطول ويعسر، ولكن المعاملة مع اشتراطها جائزة وفاقاً.
ثم أول ما نذكره بعد تصوير المبادرة والمحاطّة تردُّدُ الأصحاب في أن إعلام الأرشاق هل يشترط؟ وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها: أن إعلام الأرشاق يشترط في المبادرة والمحاطة جميعاً؛ فإن الترامي قد يطول؛ فلابد من ضبط مبلغٍ، والأرشاق في المناضلة بمثابة الميدان في السبق.
والوجه الثاني- أنا لا نشترط إعلام الأرشاق، ويكفي إعلام القرعات، فإن الرَّمي لا يجري على نسق واحد، فقد تتوالى القرعات، وقد تندر، فليقع التعويل عليها، لا على الأرشاق، وليس كذلك السبق على الخيل، فإنه لا يختلف اختلاف الرَّمي.
والوجه الثالث: أنا نفصل بين المبادرة والمحاطة، فنشترط إعلام الأرشاق في المحاطَّة، حتى ينفصل الأمر؛ فإن اتفق فوزٌ فيها، فذاك، وإلاَّ حكم بأنَّ العقد قد انتهى نهايته. ولا استحقاق، وكلٌّ يُحرز ما أخرجه، كما إذا تساوق الفرسان إلى الغاية المذكورة، وأما المبادرة، فلا نشترط إعلام الأرشاق فيها، فإن نَيْل القرعات على حكم المبادرة ليس عسيراً على الرّماة.
11675- ومما يتصل بما ذكرناه أنهما لو كانا يتناضلان والمشروط عشر قرعات، وقد توافقا على مائة رشق، ونحن وإن لم نشرط إعلام الأرشاق، جوزنا إعلامها، فلو رمى كلُّ واحد خمسين، وبادر أحدهما فأصاب القرعات العشر، فقد أصاب وفاز، وهل يلزمه أن يستتم المائة أم لا؟ فيه وجهان، وليس الغرض من هذا التردُّدَ في استرداد المال من المبادر، فذاك حكمٌ لا ينقض، ولكن أثر الاختلاف أن من أصحابنا من لم يُلزمه الاستكمالَ؛ من جهة أنه استتم العمل الذي به الاستحقاق، فلا معنى لإلزامه عملاً بعد ذلك، ومنتهى العمل في هذا الكتاب ما يتعلق الاستحقاق به.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه استتمام الأرشاق؛ فإنَّ صاحبه إنما بذل المال لينتفع بالمناضلة، ويستفيد من رمي صاحبه، وإذا فاز صاحبه بالقرعات، قال له من استحق المال عليه: قد فزتَ بالمال، فوفّر العمل، وهذا التردد قريب المأخذ مما ذكرناه في أنا عند فساد المعاملة هل نرجع إلى أجر المثل، ووجه التلاقي أنا نقول في وجه: لا أجرة؛ فإنَّ كُلاً يعمل لنفسه، وإنما استحقاق المال بالشرط على حكم المخاطرة، فعلى هذا لا نكلفه إتمامَ الأرشاق بعد استحقاق المال، وإن أثبتنا أجرة المثل عند فساد المعاملة، فقد اعتبرنا العمل، وقدرناه كالمنافع المستحقة، فعلى هذا لا يبعد أن نكلفه استكمال العمل بعد الفوز بالمال هذا في المبادرة.
فأما في المحاطة إذا وقع التشارط على أن يخلص للفائز عشر قرعات، وتوافقا على مائة رشْق، فإذا أصاب أحدهما عشر قرعات خالصة من خمسين، فهل يستحق السبَق؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يستحقه كما في المبادرة؛ فإنهما استويا في الأرشاق، وتحقق خلوص العشر لأحدهما، والخلوص في المحاطة كحصول القرعات العشر في المبادرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق المال حتى يستتم الرّمي؛ فإن صاحبه يقول: قد أُصيبُ في الأرشاق الباقية ما أحطه عن العشر التي خلصت لك، وهذا لا يمكن تصويره في المبادرة؛ فإن الشرط وقع فيها على الاستحقاق بالمبادرة، فمن ابتدر وفاز، فما يقع بعد ابتداره لا يناقض ابتداره السابق.
التفريع:
11676- إن قلنا: لا يستحق المال ما لم تكمل الأرشاق، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق المال، حتى لو فرض استكمال الأرشاق، فلا حطَّ بعد الخلوص، فيتصل تفريع المحاطة من هذا المنتهى بتفريع المبادرة، فقد وقع القضاء باستحقاقه على وجهٍ لا يُنقض، ولكن هل لصاحبه أن يكلفه إتمام العمل، واستكمال الأرشاق؟ فعلى الوجهين المذكورين في المبادرة.
ومما يجب الاعتناء به أن أحدهما في المبادرة لو رمى خمسين، وأصاب العشرة المشروطة، وصاحبه رمى تسعة وأربعين فأصاب تسعة، فلابد من ردّ السهم إليه، فلعله يصيب، وليس من المبادرة أن يتقدم أحدهما بقرعة إذا كان صاحبه غير مساوٍ له في أعداد الأرشاق، وهذا واضح لا خفاء به.
ولو أصاب أحدهما من الخمسين عشراً، وأصاب الثاني من تسع وأربعين ثماني قرعات، فقد فاز من أصاب العشر؛ فإن أكثر ما في الباب أن يرد السهم إليه، فيرمي ويصيب، ولو أصاب، فهو على تسعٍ، وصاحبه فائز بالعشر، وهذا متضح. وإذا لم تكن أرشاق معلومة، أو كانت، وقلنا: لا يجب استكمال الأرشاق، فللفائز ألا يرد السهم إلى صاحبه؛ فإنه يقول: قد استحققت المال، وليس عليَّ بعد استحقاق المال عمل، ولو كانت المعاملة محاطّة، فخلص لأحدهما من الخمسين عشر قرعات وهي المشروطة، وقد رمى صاحبه تسعاً وأربعين ولم يصب فيها، فله أن يقول: ردوا علي السهم، فلعلي أصيب، فلابد من رد السهم إليه؛ فإنه قد يصيب، فيحط عن عشر صاحبه، ويبطل خلوصها له، فهذا ما أردنا تأصيله في النضال.

.فصل: يشتمل على تمهيد أصل عظيم تستند إليه مسائلُ جمّة:

11677- نقل الأئمة تردد الشافعي في أن المتبع في النضال القياسُ، أو العادة التي تجري بين الرُّماة، وهذا مشهور على هذه الصيغة، وهو مشكل؛ فإن القياس حجة في الشرع، فإن كانت العادة موافقة لموجب الشرع، فلا معنى للتردد، والمتّبعُ الشرعُ وقياسُه، وإذا كان للرماة عادة يناقضها القياسُ المعتبرُ في الشرع، فلا معنى لاتباع عادتهم، والوجه القطع بالتعلق بالحجة الشرعية، قال الصَّيدلاني: أراد الشافعي عادة الفقهاء. وهذا كلام غير متين؛ فإن الفقهاء الذين تعتبر مذاهبهم أوّلاً هم المجتهدون، والمجتهد الرامي مُعْوِز، وقد يوجد في القطر الواحدُ فحسب، فما معنى العادة مع الاتحاد، ثم هذا الفقيه بماذا يأخذ؟ فإن أخذ بالقياس، فالرجوع إلى مأخذه، وإن كان يستجيز مخالفة القياس، فما وجهه؟
وقال شيخنا أبو محمد: المعنيُّ بالرجوع إلى العادة أنه لو أطلقت في المناضلة لفظة، والرماة يفهمون منها معنىً، فعادتهم تُتَّبع، وهذا الذي قاله ليس مما نحن فيه، بسبيل؛ فإن الأمر إن كان كذلك، وصح فَهْمُ الرُّماة من الألفاظ التي يطلقونها، فلا يجوز أن يكون في اتباع العادة خلاف إن تحقق اطرادها، وهذا بمثابة حملنا الدراهم على النقود الجارية في العقود، وإنما الذي نطلبه قياسٌ في مقابلة عادة، والذي يقتضيه القياس تنزيل اللفظ على حسب التفاهم، وهذه قاعدة ممهدةٌ في جميع العقود، فلا يبقى إذاً لتنزيل القولين في تعارض القياس والعادة وجه سديدٌ.
وأقصى الإمكان في ذلك أن نقول: إذا رأى الرُّماة أمراً فيما بين أظهرهم من مصالح المعاملة، وليس ما رأوه مما يشهد له قياس، فهل نتبع ما رأوه مصلحةً، أم نرد المعاملة إلى موجب القياس؟ هذا محل التردد، وبيانه بالمثال أن للرماة مناقشة فيمن يبدأ بالرمي، ولهم في ذلك غرض: فالذي يبتدىء يصادف القرطاس نقياً سوياً، ويكون هو على جمام قوته، فيطلب الرمي، وحكم القياس أنه ليس البعض أولى بهذا من البعض.
والذي رآه الرماة مصلحةً أن يفوضوا الحكم في ذلك إلى من يُخرج المال، وهذا يحرّض على إخراج المال، فالاعتبار بالقياس الذي إليه الإشارة في أحد القولين، ولا احتكام لأحدٍ، كما سنفرع عليه. والاعتبارُ بما يعتاده الرماة في القول الثاني، فلا مرجع لما يتردد فيه المذهب من ذكر القياس والعادة إلا ما ذكرناه.
ثم لست أرى ذلك أمراً مطرداً يُهتدى إليه كالمآخذ التي تبنى المسائل عليها، وإذا عظم وقع القياس، وبعُد ما يُرعى من عادة الرماة عن القياس بُعداً ظاهراً مصادماً للفقه والمعنى، فليس إلا اتباع القياس، وإنما يحتمل مجانبة القياس إذا قرب الأمر، كالبداية التي ذكرناها، فإن الأمر فيها وإن كان مقصوداً ليس واقعاً، وهذا قريبٌ من التردد في أن إعلام المعاليق هل يجب في الدّابة المكتراة، أم يُقْتَصَرُ فيه على ما يجري العرفُ به؟ هذا هو الممكن في ضبط ذلك وسيزداد أُنْس الناظر به إذا تكررت المسائل.
11678- والآن إذا ذكرنا البداية، فنستتم القول فيها ونقول: إن وقع التعرّض لمن يبدأ ذكراً، فهو متبع، وإن لم يتعرض المتعاقدان لمن به البداية، ففي المسألة قولان:
أحدهما: ينزل العقد على ما يراه الرماة، وقد نقل الناقلون أنهم يحكِّمون مُخرِج السبَق، كالوالي والواحدِ من عُرض الناس، ومن حكمهم المتعارف بينهم، هذا الذي ذكرناه، والأمر فيه قريب، والعقدُ عقد خطر، لا يبنى الأمر فيه على نهاية الإعلام.
هذا قولٌ، وهو ضعيف.
والقول الثاني- أنا نتبع القياس، ولا نحكّم أحداً فيما يفرض التنافس فيه.
التفريع:
11679- إن حكمنا باتباع المعنى والقياس-ولم يجر في العقد للبادئ ذكر- فعلى هذا القول قولان:
أحدهما: أنَّ العقد يفسد لاشتماله على ما يجرّ تناقشاً، لا سبيل إلى التحكم بقطعه.
والقول الثاني- أنا نُقرع بين الرماة بعد انعقاد العقد؛ فإن البداية إذا جُهلت، لم ينته الجهل بها إلى حد منافاة الصحة، والقرعةُ مرجوعٌ إليها في أمثال ذلك.
ومما يتعلق بذلك أنهم لو شرطوا من يقع البداية به، أو اقتضت القرعة-كما ذكرناه في التفريع- تقديمَ واحدٍ، فإذا وقعت البداية في الرشق الأول، فما السبيل في سائر الأرشاق بعده؟
أمَّا إن اتبعنا آداب الرماة، فالرجوع عندهم إلى تحكّم مُخرج المال مرةً ومراراً، إلى نجاز مقصود المعاملة. ولكن هذا إنما ينقدح إذا كان المُسْبِق واحداً، فأما إذا أخرج الرماةُ أسباقاً وتخلّلهم محلِّلٌ، فليس البعض منهم أولى بالتحكم من البعض، والتفريع يرجع والحالة هذه إلى اتباع القياس.
ثم إن أفسدنا، فذاك، وإن أقرعنا ووضعنا القُرعةَ على تأسيس البداية في كل رشق فهذا الحكم متبع، وإن وقع الإقراع مطلقاً، ففي المسألة وجهان. وكذلك لو جرى ذكر من يُبدأ به، نُظر: فإن وقع التصريح بتمهيد البداية أبداً، اتبعناه، وإن جرى ذكر البداية مطلقاً من غير تعرض للتخصيص بالمرة الأولى، ففي المسألة الوجهان المذكوران في القرعة:
أحدهما: أنا نطرد ما جرى في المرة الأولى إلى انتهاء المقصود. والوجه الثاني- أنا نعود إلى الإقراع في كل مرة أو نقطع اللبس، فنُجري الإقراعَ على الاطراد تصريحاً به.
وفي كلام بعض الأصحاب ما يدلّ على أن البداية لا تمهد بالقرعة في جميع المعاملة، بل لابد من إنشاء القرعة في كل رشق إذا تنافسوا، وهذا بعيد لا اتجاه له، والأمر يطول به، وتبردُ أيدي الرماة ويزيد ضُرُّ هذا على نفعه، فهذا ما أردنا ذكره.
ثم يُتصوَّر في المناضلة عادةً عامة تنزل المعاملة عليها، على قياس تنزيل الإجارة على منازل معتادة، وكذلك القول في كيفية تزجية البهيمة واستحثاثها على السير، فإذا جرت المناضلة وألفينا أمراً لا يشكل، نزلنا المعاملة عليه، وإن تردد الرأي ترتب عليه اختلافٌ في الحكم.
11680- ونحن نختتم هذا الفصل بمسائلَ توفي بالناظر على استيفاء الغرض في ذلك: فمما تردد الأئمة فيه إعلامُ المسافة التي تكون بين مواقف الرماة وبين الغرض، وقد ذكر الأئمة قولين في ذلك، ومال شيخي إلى إعلامها؛ فإنهما من أصول الأمر، ويختلف الغرض فيها بالقصر والطول، وقوة القسي والرماة وضعفها، ولا يمكن التحكم فيها بمسافة.
وأما إعلام مقدار الغرض في اتساعه، فقد ذكر الأصحاب فيه قولين مرتبين على المسافة، ورأوا هذا أهونَ وأولى بأن ينزل على العادة.
وكذلك ذكروا قولين في مقدار ارتفاع القرطاس من الأرض وجعلوا هذا أهون من الذي يليه، ورتبوه على ما قبله، وإنما ترتبت هذه المسائل على حسب ترتب الأغراض فيها ظهوراً وخفاءً، ثم العادات في اطرادها، وتطرق المناقشة إليها تجري على حسب ظهور الأغراض وخفائها، فاقتضى ما نبهنا عليه ترتب هذه المسائل: فأظهر الأغراض المسافة، ويليها اتساع الغرض المطلوب، ويلي ذلك ارتفاعه من الأرض. والبداية في الرماية لا تقع على هذا السنن؛ فإن ما ذكر من تحكيم المُسْبق لا أراه منتهياً إلى الحد الذي خرَّجنا هذه المسائل المتسلسلة عليه، ولولا ضعف الغرَض فيه، لما احتملنا فيه تحكماً، وكذلك لم نقطع القول بالفساد عند إبطالنا التحكم، ورأينا فصل النزاع بالقرعة.